جمهورية الاختلالات / بقلم : د. محمد ولد عباد

محمد ولد عباد / اقتصادي

(لا يمكن حل المشاكل المزمنة بنفس الأدوات التي أنتجتها) ألبرت اينشتاين

ولد الحلم الذي طالما راود النخب السياسية والثقافية القائمة في البلد، و المدرك والمتتبع للإرهاصات الأولى التي آذنت ورافقت نشأة الدولة الموريتانية يتضح له بشكل ج لي أن الصدفة والحظ والارتجال عوامل كانت فاعلة ومؤثرة في تشكيل النواة التكوينية للدولة،مخلفة تشوهات خلقية وخلقية لازمت البنية الهيكلية لها فيما بعد، فمن قانون ا 604;إطار”1958م” كان الاستقلال عن فرنسا بشكل شبه مجاني، مثلها في ذالك مثل جل مستعمراتها في القارة السمراء مهبط الفقر والأمية والمرض .

الدولة..والذات الوطنية المفقودة..

بالفعل حصل هذا الاستقلال بتاريخ” 28 نوفمبر 1960 “رغم اختلالاته وتشوهاته لأنه لم يكن وليد نضال وتضحيات وطنية، ولم تدفع فاتورته من عرق ودماء جماهير الشعب ومكوناته وفئات  7;العريضة، وذلك ما انعكس سلبا على علاقة المواطن بالوطن .. حيث لم تستطع هذه الدولة أن تشكل لأي مواطن بديلا عن انتمائه القبلي والعرقي ..

ولإتمام مراسيم حفل الاستقلال كان لابد من تشكيل نشيد للبلد وعلم للبلد وعاصمة للبلد ، وهذا أقل ما يجزئ من مظاهر تشكيل دولة ما تكاملت أركانها الأساسية ـ الشعب ،والسل 591;ة، والإقليم ـ بغض النظر عن التعمق في البعد التاريخي والديمغرافي والجيولوجي لها.

لكن اختيار النشيد والعلم ، ونواكشوط كعاصمة للدولة، ظل مظهرا جليا من مظاهر التخطيط الارتجالي، وليس مفارقة أن يكون النشيد والعلم عاجزين عشية الاستقلال و حتى اللحظ ;ة عن تشكيل أرضية جامعة مانعة تحتضن المجتمع وتوحده في جو من الانسجام والتفاعل يضمن استقرار النسيج الاجتماعي وعدم تفككه .

تم استنساخ الشكل (لون العلم ،وكلمات النشيد) دون المضمون لتلعب الصدفة دورها ويتحقق الاختلال الأسوأ والمتمثل في” الذات الوطنية المفقودة”. ومن ثم يتضح السر الكامن ف 10; مضمون قوة النشيد والعلم اللذان يشكلان الروح الوطنية في أية دولة كثوابت أمة وقواسم مشتركة بين الإثنيات العرقية والثقافية المكونة للشعب،وهذا الاعتبار لم يكن في الحس& #1576;ان حينها، لذا ظلت الروح الوطنية متنافرة، وغير منسجمة نتيجة لغياب القواسم المشتركة في الذات الوطنية”النشيد والعلم”، وتلك نتيجة حتمية من نتائج الارتجال في القرارا& #1578; المصيرية الكبرى المنشئة للدولة، وستظل خللا بنيويا يحول دون تحقيق الوحدة الوطنية.

حينما كانت العاصمة نواكشوط هي المكان الذي تعانق فيه لون العلم وكلمات النشيد علي إيقاع أوتار تيدنيت الفنان الكبير سيدات ولد آب أطال الله بقاءه ،لم يكن البعد الجيو 75;ستراتيجي كذالك حاضرا حينها، لذا ظلا يترنحا علي أرضية لزجة مهددة بالغرق تارة بسبب القرب من شاطئ محيط تنخفض عن مستوي سطحه ، وبالظمأ تارة أخري بسبب الضغط اللآمتناهيong>علي بحيرة اترارزة الجوفية الغير متجددة، لتظل العاصمة ترزح تحت رحمة ثنائي الظمأ والغرق باستمرار .

وجاورتها أرجو السلوّ بقربها فدل علينا جاور الماء تعطش

هكذا اكتملت مظاهر الاستقلال ـ نشيد وعلم وعاصمة ـ بحضور الكثير من الوفود الذين تداعوا من كل الأصقاع لمشاركة السلطة في أفراح أول يوم من عمر الدولة..

وتتالت الأيام دون تلافي تلك الإختلالات البنيوية، حيث وضعت الخطط الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والصحية للنهوض بالبلد الفتي، وتم تأميم الشركات ال 71;جنبية ،ثم رصد ت ميزانيات مالية ضخمة لتنفيذ تلك الخطط والإستراتيجيات، لكن الواقع بقي كما هو، وظل المظهر العام للدولة من السلطة التنفيذية، فالتشريعية، فالقضائية، يط 1576;عه الفساد، والرشوة، والجهوية، والعرقية، والمحسوبية إلى ما شاء الله من القيم والسلوكيات التي تتنافى مع الروح الوطنية ،تلك الروح التي كان من المفترض أن يكون الجميع م 8;شبعا ومتشبثا بها في دولة بدأت تغتال أحلام شبابها وانتهجت نهجا قمعيا كمم الأفواه وقيد الحريات ، بل وعملت على تصفية بعض المارقين على سياسية حزب الشعب ، ولعل أحداث ازوير 5;ت كانت مثالا بارزا لذلك النهج ، وما قتل المناضل اليساري “سميدع” وتصفيته في ظروف غامضة إلا مثالا آخر صارخا بسوداوية وبشاعة تلك المرحلة .

العسكر.. ودوامة الانقلابات

هذا المشهد السياسي استمر ثمانية عشر عاما ،وحتى “10 يوليو 1978″ تاريخ أول انقلاب عسكري في البلاد، والذي جاء ردا علي الفشل الذي منيت به المؤسسة العسكرية في حرب الصحراء، فه 1584;ا الانقلاب وجه رصاصة الرحمة ليقضي علي المؤسسات السياسية القائمة كالأحزاب علي ضعفها، و البنية الاقتصادية علي الرغم من هشاشتها، وبدأت الدولة تأخذ طابعا آخر لا وجود ف ;يه للحياة المدنية إطلاقا، لتبدأ مرحلة التنكيل، وسجن المعارضين، ومحاكمتهم محاكمات صورية، والزج بهم في السجون، وتعذيبهم بشكل همجي، وتتالت مشاهد الانقلابات الدرام& #1610;ة لتتغير الأسماء تارة والشخوص تارة والنياشين تارة أخري دون تغير الطابع العام للدولة.

الحاجة للتمويل الدولي

بعد انقلاب اللجنة العسكرية للخلاص الوطني “12ـ12ـ1984″ بدأت الحياة المدنية تعود للوطن رويدا رويدا علي استحياء بدءًا بالاستحقاقات البلدية (1986م)، ليبدأ صعود النخب السياسي 1577; الفاسدة التي ظلت الشريك الحصري للعسكر في مهزلة التحول المدني الزائف ،والذي تم تحت ضغط من المجتمع الدولي ، وبصفة خاصة جاء هذا التحول لإرضاء البنك الدولي الذي يشترط عل 1609; الدول النامية أن تقوم بإصلاحات سياسية كي يوفر لها التمويلات اللازمة لتطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي على علاتها وإضرارها باقتصاديات العالم الثالث والتي من بينها ال اقتصاد الوطني لأنها وصفة طبية كتبت لمريض آخر، كما شهدت هذه المرحلة إبادة جماعية للزنوج بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ، وكذلك أحداث (1989م) الدامية بين موريتانيا والسن 4;ال.

الديمقراطية الزائفة.. ووصاية العسكر

في “20يوليو 1991″ صدر أول دستور يكمل عودة الحياة المدنية ويجسد مسارا ديمقراطيا جديدا توج بانتخابات رئاسية ليكون العقيد معاوية ولد سيد احمد الطائع أول عسكري يتخلى عن بز 78;ه ونياشينه ليجلس علي الكرسي المدني مجسدا على أرض الواقع أول حكم مدني ديمقراطي في البلاد بغض النظر عن شكلية وعدم نزاهة هذا المشهد، لتبدأ مرحلة جديدة من زواج المتعة ب& #1610;ن العسكر والنخب السياسية القائمة، والتي تمخضت عنها طبقة سياسية برجوازية فاسدة استحوذت علي كل المقدرات والثروات، ومارست سلطتها بشكل سافر موغلة في تضييق أفق الحريات ; العامة حيث تجلى ذلك في مصادرة الصحف وحل الأحزاب السياسية وتزوير الانتخابات أكثر من مرة، عندها بدأ النظام “الطائعي” يتداعى تحت الضغط الجماهيري لتبدأ مرحلة ترميم ا 04;نظام من الداخل واستبدال وجه بوجه ، والاكتفاء بالإطاحة بالرأس ليتسنى للنظام أن يعيد إخراج مسرحيته من جديد ..وهذه المرة كان العقيد اعل ولد محمد فال هو “الفارس والمهدي 5;لمنتظر” لإنقاذ البلاد من ويلات حاكم كان هو أحد أذرعته الحديدية وشريكه الأبرز في كل جرائمه وانتهاكاته ..

فكما هو الحال مع كل انقلاب عسكري، صدقت النخبة السياسية الموريتانية أن فرسان الثالث من “أغسطس 2005م” هم من سيجلبون الديمقراطية على دباباتهم..

العسكر والدخول من الباب الخلفي

لذا عمد المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية حينها على النأي بنفسه عن السلطة من الناحية الشكلية، ومكتفيا هذه المرة بالدعم من تحت الطاولة للمرشح سيدي محمد ولد الش¡ 0;خ عبد الله للوصول لسدة الحكم ، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن العسكر، عندها تم خلع الرئيس من طرف الجنرال محمد ولد عبد العزيز الحاكم الحالي للدولة ، ليدخل البلد في د  8;امة من التجاذبات السياسية كادت أن تودي به إلى منحدر سحيق،وبكل تأكيد جاء انقلاب العسكر(2008) علي الحكم المدني الشكلي بمثابة آخر مسمار في نعش الحياة الديمقراطية والمدنية 601;ي البلاد واستهتارا سافرا بالدستور ، مما يثبت ويؤكد قوة الحكامة العسكرية التي تعتبر نفسها وصية على الدولة والشعب .

البداية والنهاية

بوجود هذا الكم الهائل من الاختلالات المتراكمة التي تنخر كاهل الدولة بفعل الصدفة والحظ والارتجال كان الوطن يدفع الثمن غاليا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وال ثقافي، فعند كل منعطف يدفع الشعب فاتورة من مستواه المعيشي المتردي بشكل تصاعدي أدى إلى تهديد النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي لتتنافر العرقيات المكونة لبانو راما الأف ;ق الوطني وتتباعد أكثر فأكثر .

فاليوم كل هذه الاختلالات مجتمعة في “موريتانيا الجديدة” حيث لا قانون فوق قوة قانون المزاج العسكري في ظل الضعف الشديد وعدم النضج السياسي الذي تعاني منه المعارضة ا ;لتقليدية المترهلة، والتي لم تستطع خلال عشرين عاما من النضال السياسي أن تستوعب الدروس من تاريخها المليئ بالإخفاقات والانتكاسات ..

للخروج من بوتقة هذا الواقع المتأزم وهذه الإفرازات والإكراهات والتراكمات لابد من قيام ثورة جماهيرية سلمية بدأت ملامحها تلوح في الأفق .. وبدأ الواقع والحاجة يمليان 07;ا أكثر ، تشارك فيما جميع القوى الفاعلة في البلدمن ”حركات شبابية ( حركة25فبراير)، ونقابات طلابية، وقضاة، وصحافة، ومحامون، وأكاديميون، ونقابات عمالية، وأحزاب سياسية، وأطباء، ومهندسون،و مدراء، وفلاحون، ورجال أعمال، وكل قادة الرأي “.

فالثورة الجماهيرية السلمية هي الوحيدة القادرة علي خلق نظام جديد يجسد الذات الوطنية المفقودة في كل من النشيد والعلم، ويعيد صياغة الدستور بحيث يكون نابعا من إر 1575;دة الشعب وتطلعاته للوحدة والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وليس دستورا مستنسخا كتب على عجل وراء أبواب موصدة.

إذا لابد من قيام هذه الثورة السلمية لأنها الأمل و الملاذ الأوحد لوضع أسس جديدة للديمقراطية والحكم الرشيد، وهي الطريق الأمثل لتغيير يلزم قادة العسكر بالرجوع إلي 9;كناتهم والحفاظ علي أمن البلد والابتعاد كل البعد عن المعترك السياسي ، وبالتالي فإن سلمية هذه الثورة وإرادتها في صنع التغيير هي الرهان الأكبر لخلاص البلد من براثين ال& #1601;قر والأمية والمرض، كما أنها السبيل الوحيد لعزل ورمي جميع النخب السياسية الفاسدة خارج دائرة الاهتمام بالشأن العام، عندها ستتجسد دولة القانون والمؤسسات، و 1578;تلاشى جميع العقد والاختلالات وينعم الوطن بالأمن والأمان والاستقلال التام .. عندئذ يتحقق حلم الجمهورية .

Email:ouldabbad@gmail.com

oG3y8CPTkuc